التوفيق بين الأمزجة
الكاتب : محمد الحمد

يتفاوت الناس في مقدار صبرهم على بعض، واستيعاب بعضهم لبعض، وقبول بعضهم لبعض؛ فمنهم من يغرق بشبر ماء؛ فلا يكاد يحتمل الناس إلا بمقدار ما تقتضيه الضرورة؛ ولا تسمح له طبيعته إلا بمصافاة واحد أو اثنين من الناس، ومنهم من تبلغ به سعة النفس ألا يضيق بأحد مهما بلغ من الثقل والكزازة؛ فهو كما قيل:  

.......................................... ***  لكا البحر مهما يُلْقَ في البحر يغرقِ

ومنهم من هو بين ذلك.   وإن من أمارات التوفيق للإنسان، ومن علامات سعة نفسه، وحسن رياضته لها - أن يعطى القدرة على التوفيق بين الأمزجة المختلفة، والطبائع المتباينة؛ فقد تقضي عليه الأحوال أن يكون ذا علاقات واسعة، أو أن يكون ذا مجلس مفتوح ينتابه الناس على اختلاف طبقاتهم، وقد يكون ممن يلبي دعوات الناس، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم؛ فلا بد له -إذاً- من مقابلة أناس مختلفين ذوقا، وفضلاً، وعلماً، وثقافةً وما جرى مجرى ذلك؛ فإذا اجتمع أولئك المختلفون في مكان واحد صار اجتماعهم مَظِنَّةَ الانقباضِ ؛ فيثقل بعضهم على بعض، وقد يتناولون موضوعاً فيحتدم النقاش بينهم؛ فيتكدر المجلس، ويسوده الضيق.   فإذا كان فيهم ذو نفس واسعة، ومعرفة بطبائع النفوس، وقدرة على التوفيق بين الأمزجة المتنافرة - انقلب ذلك المجلس إلى توافق، واقترب الحاضرون من بعض، وصار لديهم الاستعداد لقبول بعض؛ فما يلبثون فترة إلا وقد تعارفوا بعد تناكر، وتآلفوا بعد انقباض. وما ذاك إلا بسبب ذلك الحليم الواسع النفس الذي متى ما أَوْرَدَ الأمرَ أَصْدَره. وتلك الخصلة يحتاجها من يكون رأساً في قومه، أو أسرته، أو بلده، أو عمله؛ ليحفظ على الناس تماسكهم، واجتماعَ كلمتهم. ومن اتصف بتلك الخصلة صار مرموقاً بعين التَّجلَّة، موصوفا بسعة النفس، وكِبَر القلب. ولا ريب أن من كان كذلك سيواجه كثيراً من المتاعب، إذ هو في مروءة عالية، والمروءة تؤذي صاحبها، وتتعبه. ولكنه الأذى والتعب الذي يفضي إلى راحة، وسكينة، وهدوء بال، وحسن مآل.   مدينة الزلفي 11-8-1443هـ 

 

كافة الحقوق محفوظة لحوار الثقافات