شيء عن الثقافة

سعد الحامدي الثقفي

قد تكون أقرب ترجمة لهذه العبارة هي "تثقيف العقول وتسميدها" وهو مقال كتبه فرانسيس بيكون تناول فيه أمراً من أمور الثقافة، ماهية الثقافة التي تغيرت مصطلحاتها وتبدلت تبعاً لتغير أحوال البشرية. لكن الطريف في موضوع هذا المقال هو تلك المقارنة التي عقدها بيكون بين "الروث" وأرجو ألا تكون العبارة قد ضايقتكم معاشر القراء، وبين السمو العقلي من حيث أن الثقافة هي سمو عقلي بالدرجة الأولى. فكما أن السماد هو مادة مهمة للزراعة ولا غنى للفلاح عنها فكذلك الثقافة التي لا غنى للفرد عنها، وهنا لا بأس من عقد المقارنة، لكن ربما غاب عن بيكون أمر آخر وأعني به إن الروث وهو مادة قذرة تصل بنا إلى الجودة في المحصول الزراعي، لكن أنماط الثقافة لا علاقة لها بالقذارة ولم أسمع يوماً بأن أمراً مقززاً يصب في صالح الثقافة. والطريف في الأمر أيضاً ان من معاني الثقافة كلمة Coulte وهي المحراث أو حديدة المحراث القاطعة على وجه التحديد وهي التي لا غنى للفلاح عنها في فلاحة الأرض فالكلمة تقترب من جذر الثقافة Culture، فهل كان بيكون يقصد إن الثقافة كالزراعة في أمور متعددة؟ ربما هدف إلى ذلك. فالمحراث من أهم وظائفه فلاحة الأرض وإن كانت هذه الفلاحة تأخذ فعلاً ذا حدة وقوة ويتم الأمر بشيء من العنف حيث يعمد الفلاح بثيرانه أو بآلته الحادة الآن إلى قطع النبات والزهور وإلى هدم أعشاش الطيور في الأرض والحشرات من أجل رومانسية مفرطة تخصه وحده، وهي زراعة الأرض. دون ان ينظر إلى أمر تلك المخلوقات التي لا حول لها ولا قوة. وهو ذات الأمر التي تتصف به الثقافة في أعنف تجلياتها حالياً، فالثقافة العصرية الآن باتت لا تهتم بأمور البشرية في سبيل ثقافة أممية مصدرها القوة كما هي الحال في الولايات المتحدة حالياً التي ينطبق عليها معنى الثقافة الجديدة. ولقد كتب إدوارد سعيد في عدد سابق من مجلة الكرمل عن "التلفيق والذاكرة الجمعية" وهو أمر يصب في ذات العنوان الذي عناه فرانسيس بيكون. وقد خرج ادوارد سعيد بنتيجة مؤداها ان الثقافة المسيطرة تعمد إلى طمس الحقائق لدى الشعوب معتمدة على الذاكرة الجمعية التي تنتجها هي، وهو أمر ينطبق تماماً على ما قامت به الولايات المتحدة حديثاً.

ونعود إلى تسميد العقول بالثقافة الذي عناه بيكون في مقاله الذي نحن بصدد التعليق عليه، لنكتشف ان الثقافة بعد عقود طوال من مقال بيكون لم تتغير كثيراً عن مدلولات بيكون التي عناها، (فالبشرية قد انزاحت من الوجود الريفي إلى الوجود المديني ومن تربية الخنازير إلى بيكاسو، ومن فلاحة الأرض إلى انشطار الذرة وهي تجمع كلاً من الأساس والبيئة والبنية الفوقية في تصور واحد أو فكر واحد. ولربما كانت تتوارى ذكريات القحط والمجاعة التي عانت البشرية منها خلف اللذة التي يفترض اننا نستمدها من البشر المثقفين Cultivated الذين تعهدتهم يد الحراثة والصقل. بيد ان هذا الانزياح الدلالي هو انزياح منطو على نوع من المفارقة أو التناقض الذي مفاده ان سكان المدن هم "المثقفون" الذين تعهدتهم يد الحراثة والصقل والتهذيب، أما أولئك الذين يعيشون من حراثة الأرض فلا، فالذين يحرثون الأرض ويهذبونها أقل قدرة على حراثة أنفسهم وتهذيبها، ذلك أن الزراعة لا تترك وقتاً شاغراً للثقافة) وما أوردته تعليق من تيري ايجلتون عن الثقافة علق فيه على مقال بيكون عن تسميد الثقافة، لكني أوردته لأن ما استنتجته عن تسميد الثقافة يختلف كلية عن ما توصل إليه ايجلتون، وأترك للقراء أمر المقارنة هذا بين التعليقين.

بقي أن أشير إلى نقطة هامة وهي أن الثقافة في آخر مضامينها لم تعد تعني بأن المثقف هو الذي يقرأ أو يهتم بأمر الكتب، بل الثقافة تعنى بكل ما يقوم به الفرد من مختلف أنماط حياته من مأكل وملبس وسلوك وطريقة في التعايش وهنا تداخلات مفاهيم كثيرة مثل الحضارة والتمدن والثقافة وغيرها من المفاهيم التي تصب في بوتقة واحدة هي الثقافة. التي تهتم بتسميد العقول على رأي بيكون وإن كان هذا التسميد غير صالح في كل مرة، والدليل ما أفرزته ثقافة (الآخر) من استبداد وفرض أنماط دون النظر إلى سلامة هذه الأنماط ودون النظر مرة أخرى لثقافة الآخر التي قد تكون جديرة بالبقاء بدلاً من الثقافة الجديدة التي تمجد الهيمنة قبل كل شيء.





 

 

كافة الحقوق محفوظة لحوار الثقافات